ـ الفرزدق(1):
قال ابن خلكان: لمّا حجّ هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، فطاف وجهد ان يصل إلى الحجر ليستلمه فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنُصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم) وكان من أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم أرجاً، فطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، فقال الشامي: من هذا يا أبا فراس؟ فقال:
هـــــــــذا الــذي تعرف البطحاء وطأته***والبيــــــت يــــعرفه والحـــــل والحرمُ
هــــــــــذا ابـــــن خيـــر عباد الله كلّهم***هذا التقـــــيّ الـــنقيّ الطاهر العلمُ(2)
إذا رأتـــــــــــه قريــــــــش قال قائلها:***إلـــى مكــــــارم هـــــذا ينـــتهي الكرمُ
ينــــــــمى إلـى ذروة العزّ التي قصُرت***عـــــن نيــــــلها عرب الإسلام والعجمُ
يكـــــــــاد يمــــــــسكه عـــرفان راحته***ركـــــن الحـطيم إذا ما جاء يستلمُ(3)
فـــــــــي كــــــــفّه خيزران ريحه عبقُ***مـــــن كفّ اروع في عرنينه شممُ(4)
يُغــــــضي حيــــاءً ويُغضى من مهابته***فــــــــما يُـــــكلّم إلاّ حين يــــبتسمُ(5)
ينــــــشق نـــور الهدى عن نور غرّته***كالشمس ينجاب عن إشراقها القتمُ(6)
مشتــــــقة مـــــــن رســــول الله نبعته***طــــــابت عـناصره والخيم والشيمُ(7)
هـــــــــذا ابـــــن فاطمةٍ إن كنت جاهله***بجــــــدّه أنـــــــبياء الله قـــــــد ختموا
الله شــــــــــــرّفه قــــــــــــدماً وعظّمه***جــــــــرى بـــــــذاك له في لوحه القلمُ
فلــــــيس قـــــــولك مــــن هذا بضائره***العـــربُ تعرف من انكرت والعجمُ
(كلتـــــــــا يــــــــديه غيــاث عمّ نفعهما***تـــستوكفان ولا يــــــعروهما عدمُ(9)
سهــــــــل الخليـــــقة لا تُخشى بوادره***يـزينه اثنان حسن الخلق والشيمُ(10)
حمّـــــــال أثـــــــقال أقــــوام إذا فدحوا***حــــــلو الشمائل تحلو عنـده نعمُ(11)
مـــــــــا قــــــــال لا قــط إلاّ في تشهده***لــــــولا التـــشهد كانت لاءه نعمُ(12)
لا يُـــــــخلف الوعد مأمون نقــــــيـبته***رحـــــــــب الغـــــناء اريب حين يغترم
عـــــــــمّ البـــــرية بالإحسان فانقشعت***عنـــــها الغيابة والأملاق والعدمُ(13)
مــــــــن معـــــشر حبّهم دين وبغضهم***كفــــــــر وقــــــربهم مــنجى ومعتصمُ
إن عـــــــدّ أهــــــل التقى كانوا أئمتهم***أو قــــيل من خير أهل الأرض قيل همُ
لا يستـــــــطيع جـــــــــواد بـعد غايتهم***ولا يـــــــــدانيهم قــــــوم وإن كــرموا
هــــــــم الغـــيوث إذا ما أزمة أزمت***والأسد أسد الشرى والبأس محتدمُ(14)
لا يــــــــنقص العســر بسطاً من أكفّهم***ســـــــيّان ذلــــك ان اثروا وإن عدموا
مقــــــدّم بعــــــذ ذكــــــــــر الله ذكرهم***مــــــــن كل بـــــــدء ومختوم به الكلمُ
يـــــــأبى لهــــــم ان يحلّ الذمّ ساحتهم***خيـــــــر كــــــريم وأيـــد بالندى هضمُ
أيّ الخلائــــــق ليـــــــــست في رقابهم***لأوليــــــــــــة هــــــــذا أوله نـــــــــعمُ
مـــــــــــن يعــــرف الله يعرف أوّلية ذا***والديـــــــن مـــــن بيت هذا ناله الأممُ
فلما سمع هشام هذه القصيدة غضب وحبس الفرزدق، وانفذ إليه زين العابدين اثني عشر ألف درهم، فردها وقال: مدحته لله تعالى لا للعطاء، فقال: إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده، فقبلها(15).
2- السيد ناصر الأحسائي:
جـــميــــــل الصبر مفتــاح الفلاح***وعــــــقباه جــــــنـــاح للنجـــــاح
بـــه يلقى الضريع الصرف شهداً***جـــناح المجـــد من زاكي اللقاح
تســــــامت فيــــــه آل الله قــــدماً***بسوق النفــس في سوق الرباح
ولــــــولاه مــــــا فــــــازت كـرام***بحــــــسن الــذكر في يوم الكفاح
قــــــد اخــــــتاره فـــاشتاروه لما***صــــــت عــــــنه زائـــم بالجماح
كأنـــــصار الحسين بني المعالي***بنــــــاة المجــد في السبع البطاح
إذا ضــــــاق الخــناق لدى زحام***تــــــراءوا جــــــده مــرأى مزاح
وإن نــــــادتهم الهيجـــــا أجابوا***نــــــداء الـــــداع بالغرر الصباح
ففيــــــهم تضــرب الأمثال صبراً***بــه امتاز المراض من الصحاح
لقــــــد أورى بـــــه السجاد قدحاً***بــــــه نــــــال المعــلى من قداح
كما أدى له حــــــقاً عــــــظيمـــاً***نبــــــت عنه سماة أولى السماح
فمــــــا يعــــقوب ما أيوب صبراً***كــــــزين العــابدين فتى الصلاح
له صــــــوم الهجـــــير أجل عيد***وجــــــنح الليـل مصباح الصباح
لــــــه الشـــرف الأثيل بكل جيل***وعـنــــــه المــــدنسات بمنتزاح
لــــــه الأذكـار والدعوات أهنى***ورود فــــــي غـــبوق واصطباح
لــــــه الصبــر الجميل بكر رزؤ***تطيــــــش به الحلوم لدى الكلاح
حــــــلا مـــــن جوده جيد العالي***كــــــما تحــلو الغواني بالوشاح
وليــــــس لغــــــيره رزؤ كجـزؤ***اصــــــاب علاه في كل النواحي
عــــــلى أن ليـس عدل من أبيه***بمقتــــــله الشنيــــــع المستباح
عــــــلى أن ليس عدل من أخيه***عـــلـــى ذي الكرامات الصراح
عــــلى أن ليس عدل من عموم***سمـوا مجداً إلى شرف الضراح
ولا سيــــــما أبو الفضل المفدى***أبي الضيــــم ذو المجد الصحاح
عــــــلى أن ليس عدل من ذويه***تكفنهم أعــــــاصير الــــــريـــاح
عــــــلى أن ليس عدل من ذويه***تغسلهــــــا الدما عـوض القراح
عــــــلى أن ليس عدل من حريم***لــــــه تسبــــــى بأكـوار الرزاح
يشــــــاهد ما تكـــــابد من وثاق***وتشهيــــــر وضــــــرب وانتزاح
يطــــــاف بــــــرأس والده عليه***عــــــلى هـــون بأطراف الرماح
وبــــقرع بالعصى طوراً وطوراً***عــــــليه تستــــــدار كؤوس راح
يــــــرى الأطفال بين فطيم سهم***وريــــــان الحشا بدم الجــــــراح
ومكبــــــول دموع العين اشرب***ولا زاد ســــــوى طــــول المناح
فهــــــل أحداً أصيب ببعـض هذا***رضـــى ما كان في القدر المتاح
وكــم قاسى من الأعداء عظاماً***يضيــــــق بعــضها رحب البطاح
ولــــــم تكـــف ابن مروان قيود***بــــــيوم الطــــــف تؤذن باجتياح
فأشخــــــصه بأقــــــياد ثــــــقال***لأرض الشام محـفوظ برئ ساح
ألــــــم تقــــــرع مسامعـه عظاة***وما فيــــــه مــن الآي الوضاح
نعــــــم خــبث الأصول تجر طبعاً***لخــــــبث الفعـــل والشيم القباح
وليــــــس مصــــــدقاً صـدقاً لئيم***إذا مــــــا كان أكذب من سجاح
فأعقــــــب للــوليد الرجس ظلماً***أضــــاق به الرحاب عن افتتاح
فــــــدس لقتــــــله سمــــــاً نقيعاً***نيــــــاط القــــلب قطع بالشراح
تبــــــوّأ جــــــسمه منـــــه نحول***يجــــــدد بالغــــــدو وبالـــرواح
فــــــوا لهفــــــاه للسجاد مضنى***بــــــرته سمـــومه بري القداح
تذكــــــره السموم لظـــى سموم***يكــــــابده أبــــــوه لــدى الكفاح
فيسلــــــوا سمــــــه بلــظى أبيه***ومــــــا ذكـر السموم بمستراح
ويذكــــــر إذ تجــــــرحــه سموم***أبــــــاه حــــــين أثخـن بالجراح
إلــــــى أن سمـــه استوفى قواه***فأطــــــفأ منــــه مصباح الفلاح
قــــــضى السجـــاد مظلوماً بسم***فــــما طيب الكرى لي من مباح
قـــــضى السجاد فالصدقات سراً***تقــــــيم عــــــليه مــأدبة النياح
قـــضى السجاد فالدعوات تهمي***دمــــــوعاً منـــه تهمي بالمناح
قــــــضى عــــين الحياة في عين***عقــــــيب العـين تبخل بانسفاح
قـــضى قطب الوجود فكيف تبقى***بــــــنا الأفــــلاك دائمة السباح
قــــــضى فالحق منه في مضيق***وضيـــق الكفر منه في انفساح
وصـــــدر العلم في حرج اكتئاب***وصـدر الجهل منه في انشراح
وبــــــاب الــــرشد يبكي بانفلاق***وبــــــاب الغــــي يفرح بانفتاح
بكتــــــه الجــــامدات فلا عجيب***بأن يبــــــكي بألسنـــة الفصاح
وتبــــــكيه الوفود وما عـــــليها***وقــــــد فقد المرجى مـن جناح
ويبكيه السماح وغير بدع***إذا يبكي السماح على السماح (16)