خُذني مَعَكْ
سميح القاسم
تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني
ووزرِ حياتي
وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،
أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟
وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً،
وآثَرتَ حُزني مَلاذا
أجبني. أجبني.. لماذا؟.
• • • • •
عَصَافيرُنا يا صَديقي تطيرُ بِلا أَجنحهْ
وأَحلامُنا يا رَفيقي تَطيرُ بِلا مِرْوَحَهْ
تَطيرُ على شَرَكِ الماءِ والنَّار. والنَّارِ والماءِ.
مَا مِن مكانٍ تحطُّ عليهِ.. سوى المذبَحَهْ
وتَنسى مناقيرَها في تُرابِ القُبورِ الجماعيَّةِ.. الحَبُّ والحُبُّ
أَرضٌ مُحَرَّمَةٌ يا صَديقي
وتَنفَرِطُ المسْبَحَهْ
هو الخوفُ والموتُ في الخوفِ. والأمنُ في الموتِ
لا أمْنَ في مجلِسِ الأَمنِ يا صاحبي. مجلسُ الأمنِ
أرضٌ مُحايدَةٌ يا رفيقي
ونحنُ عذابُ الدروبِ
وسخطُ الجِهاتِ
ونحنُ غُبارُ الشُّعوبِ
وعَجْزُ اللُّغاتِ
وبَعضُ الصَّلاةِ
على مَا يُتاحُ مِنَ الأَضرِحَهْ
وفي الموتِ تكبُرُ أرتالُ إخوتنا الطارئينْ
وأعدائِنا الطارئينْ
ويزدَحمُ الطقسُ بالمترَفين الذينْ
يُحبّونَنا مَيِّتينْ
ولكنْ يُحبُّونَنَا يا صديقي
بِكُلِّ الشُّكُوكِ وكُلِّ اليَقينْ
وهاجَرْتَ حُزناً. إلى باطلِ الحقِّ هاجَرْتَ
مِن باطلِ الباطِلِ
ومِن بابل بابلٍ
إلى بابلٍ بابلِ
ومِن تافِهٍ قاتلٍ
إلى تافِهٍ جاهِلِ
ومِن مُجرمٍ غاصِبٍ
إلى مُتخَمٍ قاتلِ
ومِن مفترٍ سافلٍ
إلى مُدَّعٍ فاشِلِ
ومِن زائِلٍ زائِلٍ
إلى زائِلٍ زائِلِ
وماذا وَجَدْتَ هُناكْ
سِوى مَا سِوايَ
وماذا وَجّدْتَ
سِوى مَا سِواكْ؟
أَخي دَعْكَ مِن هذه المسألَهْ
تُحِبُّ أخي.. وأُحِبُّ أَخاكْ
وأَنتَ رَحَلْتَ. رَحَلْتَ.
ولم أبْقَ كالسَّيفِ فرداً. وما أنا سَيفٌ ولا سُنبُلَهْ
وَلا وَردةٌ في يَميني.. وَلا قُنبُلَهْ
لأنّي قَدِمْتُ إلى الأرضِ قبلكَ،
صِرْتُ بما قَدَّرَ اللهُ. صِرْتُ
أنا أوَّلَ الأسئلَهْ
إذنْ.. فَلْتَكُنْ خَاتَمَ الأسئِلَهْ
لَعّلَّ الإجاباتِ تَستَصْغِرُ المشكلَهْ
وَتَستَدْرِجُ البدءَ بالبَسمَلَهْ
إلى أوَّلِ النّورِ في نَفَقِ المعضِلَهْ.
• • • • •
تَخَفَّيْتَ بِالموتِ،
تَكتيكُنا لم يُطِعْ إستراتيجيا انتظارِ العَجَائِبْ
ومَا مِن جيوشٍ. ومَا مِن زُحوفٍ. ومَا مِن حُشودٍ.
ومَا مِن صُفوفٍ. ومَا مِن سَرايا. ومَا مِن كَتائِبْ
ومَا مِن جِوارٍ. ومَا مِن حِوارٍ. ومَا مِن دِيارٍ.
ومَا مِن أقارِبْ
تَخَفَّيْتَ بِالموْتِ. لكنْ تَجَلَّى لِكُلِّ الخلائِقِ
زَحْفُ العَقَارِبْ
يُحاصِرُ أكْفانَنا يا رفيقي ويَغْزو المضَارِبَ تِلْوَ المضارِبْ
ونحنُ مِنَ البَدْوِ. كُنّا بثوبٍ مِنَ الخيشِ. صِرنا
بربطَةِ عُنْقٍ. مِنَ البَدْوِ كُنّا وصِرنا.
وذُبيانُ تَغزو. وعَبْسٌ تُحارِبْ.
• • • • •
وهَا هُنَّ يا صاحبي دُونَ بابِكْ
عجائِزُ زوربا تَزَاحَمْنَ فَوقَ عَذابِكْ
تَدَافَعْنَ فَحماً وشَمعاً
تَشَمَّمْنَ مَوتَكَ قَبل مُعايشَةِ الموتِ فيكَ
وفَتَّشْنَ بينَ ثيابي وبينَ ثيابِكْ
عنِ الثَّروةِ الممكنهْ
عنِ السرِّ. سِرِّ القصيدَهْ
وسِرِّ العَقيدَهْ
وأوجاعِها المزمِنَهْ
وسِرِّ حُضورِكَ مِلءَ غِيابِكْ
وفَتَّشْنَ عمَّا تقولُ الوصيَّهْ
فَهَلْ مِن وَصيَّهْ؟
جُموعُ دُخانٍ وقَشٍّ تُجَلجِلُ في ساحَةِ الموتِ:
أينَ الوصيَّهْ؟
نُريدُ الوصيَّهْ!
ومَا أنتَ كسرى. ولا أنتَ قيصَرْ
لأنَّكَ أعلى وأغلى وأكبَرْ
وأنتَ الوصيَّهْ
وسِرُّ القضيَّهْ
ولكنَّها الجاهليَّهْ
أجلْ يا أخي في عَذابي
وفي مِحْنَتي واغترابي
أتسمَعُني؟ إنَّها الجاهليَّهْ
وَلا شيءَ فيها أَقَلُّ كَثيراً سِوى الوَرْدِ،
والشَّوكُ أَقسى كَثيراً. وأَعتى كَثيراً. وَأكثَرْ
ألا إنَّها يا أخي الجاهليَّهْ
وَلا جلفَ مِنَّا يُطيقُ سَماعَ الوَصيَّهْ
وَأنتَ الوَصيَّةُ. أنتَ الوَصيَّةُ
واللهُ أكبَرُْ.
• • • • •
سَتذكُرُ. لَو قَدَّرَ الله أنْ تَذكُرا
وتَذكُرُ لَو شِئْتَ أنْ تَذكُرا
قرأْنا امرأَ القَيسِ في هاجِسِ الموتِ،
نحنُ قرأْنا مَعاً حُزنَ لوركا
وَلاميّةَ الشّنفرى
وسُخطَ نيرودا وسِحرَ أراغون
ومُعجزَةَ المتنبّي،
أَلَمْ يصهَر الدَّهرَ قافيةً.. والرَّدَى منبرا
قرأْنا مَعاً خَوفَ ناظم حِكمَت
وشوقَ أتاتورك. هذا الحقيقيّ
شَوقَ أخينا الشّقيّ المشَرَّدْ
لأُمِّ محمَّدْ
وطفلِ العَذابِ محمَّد
وسِجنِ البلادِ المؤبَّدْ
قرأْنا مَعاً مَا كَتَبنا مَعاً وكَتَبنا
لبِروَتنا السَّالِفَهْ
وَرامَتِنا الخائِفَهْ
وَعكّا وحيفا وعمّان والنّاصرَهْ
لبيروتَ والشّام والقاهِرَهْ
وللأمَّةِ الصَّابرَهْ
وللثورَةِ الزَّاحفَهْ
وَلا شَيءَ. لا شَيءَ إلاّ تَعاويذ أحلامِنا النَّازِفَهْ
وساعاتِنا الواقِفَهْ
وأشلاءَ أوجاعِنا الثَّائِرَهْ.
• • • • •
وَمِن كُلِّ قلبِكَ أنتَ كَتبتُ
وَأنتَ كَتبتَ.. ومِن كُلِّ قلبي
كَتَبْنا لشعْبٍ بأرضٍ.. وأرضٍ بشعبِ
كَتَبْنا بحُبٍّ.. لِحُبِّ
وتعلَمُ أنَّا كَرِهْنا الكراهيّةَ الشَّاحبَهْ
كَرِهْنا الغُزاةَ الطُّغاةَ،
وَلا.. ما كَرِهْنا اليهودَ ولا الإنجليزَ،
وَلا أيَّ شَعبٍ عَدُوٍ.. ولا أيَّ شَعبٍ صديقٍ،
كَرِهْنا زبانيةَ الدولِ الكاذِبَهْ
وَقُطعانَ أوْباشِها السَّائِبَهْ
كَرِهْنا جنازيرَ دبَّابَةٍ غاصِبَهْ
وأجنحَةَ الطائِراتِ المغيرَةِ والقُوَّةَ الضَّارِبَهْ
كَرِهْنا سَوَاطيرَ جُدرانِهِم في عِظامِ الرّقابِ
وأوتادَهُم في الترابِ وَرَاءَ الترابِ وَرَاءَ الترابِ
يقولونَ للجوِّ والبَرِّ إنّا نُحاولُ للبحْرِ إلقاءَهُم،
يكذبُونْ
وهُم يضحكُونَ بُكاءً مَريراً وَيستعطفونْ
ويلقونَنَا للسَّرابِ
ويلقونَنَا للأفاعِي
ويلقونَنَا للذّئابِ
ويلقونَنَا في الخرابِ
ويلقونَنا في ضَياعِ الضَّياعِ
وتَعلَمُ يا صاحبي. أنتَ تَعلَمْ
بأنَّ جَهَنَّم مَلَّتْ جَهّنَّمْ
وعَافَتْ جَهَنَّمْ